مُقَدِّمَة
فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، يَقْتَرِبُ مِنِّي طَائِرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، يَقْتَرِبُ أَكْثَرَ، وَيَهْمِسُ فِي أُذُنِي “لَا أُرِيدُ لِلأَشْجَارِ وَالأَغْصَانِ وَهُدُوءِ اللَّيلِ والفَرَاشَاتِ النَّائِمَةِ أَنْ تَسْمَعَ حَدِيثِي إِلَيْكَ، هَيَّا اعْتَلِ ظَهْرِي فَهُنَاكَ رِحْلَةٌ طَوِيلَةٌ بِانْتِظَارِنَا”.
اعْتَلَيْتُ ظَهْرَ هَذَا الطَّائِرِ الغَرِيبِ، ثُمَّ بَدَأَ يُرَفْرِفُ بِأَجْنِحَتِهِ الذَّهَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَقْطُرُ لُؤْلُؤًا مَا رَأَتْ عَيْنَايَ قَطُّ مِثْلَ سِحْرِهِ وَأَنَاقَتِهِ، وَعِنْدَمَا سَأَلْتُهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ اللُؤْلُؤِ البَاهِرِ، أَجَابَنِي مُبْتَسِمًا إِنَّهُ مِنْ بَسْمَةِ صَيْدَلَانِيِّةٍ نَفَثَتْ عَلَى أَجْنِحَتِي فَصَارَتْ تَقْطُرُ لُؤْلُؤًا، ثُمَّ لَمَسَتْ أَجْنِحَتِي فَغَدَتْ ذَهَبِيَّةً كَمَا تَرَاهَا الآنَ.
سَنَرْحَلُ الآنَ إِلَى جَزِيرَةٍ بَقِيَتْ دُهُورًا عَدِيدَةً، مَرِيضَةً سَقِيمَةً تَسْتَغِيثُ عَبْرَ بِحَارِهَا الجَافَّةِ، وَأَعْشَابِهَا المَخْنُوقَةِ، وَرِمَالِ شَوَاطِئِهَا البَاكِيَةِ، وَأَمْوَاجِهَا المُضْطَّرِبَةِ، وَطُيُورِهَا الصَّامِتَةِ الكَئِيبَةِ، تَسْتَغِيثُ دُونَ جَدْوَى، دُونَ أَمَلٍ. إِلَى أَنْ وَصَلَتْ تِلْكَ النِّدَاءَاتُ إِلَى مَسَامِعِ هَذِهِ الصَّيْدَلَانِيَّةِ الّتِي انْطَلَقَتْ تُدَاوِي هَذِهِ الجَزِيرَةَ الجَرِيحَةَ الّتِي سَتَرَاهَا كَيْفَ غَدَتْ آيَةً فِي جَمَالِهَا لَا مَثِيلَ لِبَرِيقِهَا أَبَدًا.
وَعِنْدَمَا وَصَلْنَا تِلْكَ الجَزِيرَةَ الّتِي حَسِبْتُهَا جَنَّةً مِنْ ذُهُولِ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ المُتَسَمِّرَتَانِ انْدِهَاشًا، وبَرِيقُ أَعْشَابِهَا النَّضِرَةِ، وَرَقْصَةُ رِمَالِ شَوَاطِئِهَا ، وَمِنْ رَوْعَةِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ مِنْ تَغَارِيدِ طُيُورِهَا ِالفَرِيدَةِ، وَأَلْحَانِ أشْجَارِهَا العَجِيبَةِ ، اسْتَقْبَلَنِي بَحْرُهَا المُذْهِلُ مُبْتَسِمًا مُنْشِدًا “مَرْحَبًا بِمَنْ أَقْبَلَ وَأَتَى، أَهْلًا بِكَ فِي عَالَمِي الجَمِيلِ” ثُمَّ ضَمَّنِي البَحْرُ بِشِدَّةٍ حَتَّى بِتُّ أَنْتَمِي لِأَمْوَاجِهِ الزَّرْقَاءَ وَالخَضْرَاءَ وَالوَرْدِيَّةَ المُحَيِّرَةَ.
لَا جَمَالَ يُقَارَنُ بِجَمَالِ هَذِهِ الأَمْوَاجِ أَبَدًا، وَكَأَنِّي فِي كَوْكَبٍ آخَرَ. أَبْحَرْتُ عَمِيقًا فِي عَالَمِ هَذِهِ الأَمْوَاجِ وَعِشْتُ جَمِيعَ أَجْوَائِهَا السَّعِيدَةِ والحَزِينَةِ حَتَّى بَدَأَتْ حُرُوفِي وَكَلِمَاتِي تَنْهَالُ عَبْرَ تِلْكَ الأَمْوَاجِ الرَّائِعَةِ.
وَذَلِكَ الطَّائِرُ العَجِيبُ ذُو الأّجْنِحَةِ الذَّهَبِيَّةِ يَعْزِفُ عَلَى شَوَاطِئِ ذَلِكَ البَحْرِ مُفْرَدَاتِي الهَنِيَّةَ وَالشَّقِيَّةَ، حَتَّى أَصْبَحَتْ تِلْكَ الجَزِيرَةُ المُعْجِزَةُ تَتَغَنَّى بِكَلِمِاتِي رَاقِصَةً َتَارَةً وَبَاكِيَةً تَارَةً أُخْرَى.
أَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ أَنْ تَنَالَ كَلِمَاتِي المُتَواضِعَةُ البَسِيطَةُ فِي هَذَا الدِّيوَانِ رِضَاكُمْ وَاسْتِحْسَانَكُمْ وَإِعْجَابَكُم.
أَخُوكُمْ وَمُحِبُّكُمْ: شَادِي عُمَر عَرْنُوس.